قصة قصيرة
- القاضي واللص
- جلس القاضي بعدما أدركه العناء ،وبلغ الجَهد به مبلغاً ، لقد خرج من بيته يمشي علي قدميه يتوكأ علي عصاه ، قد ملَ من الجدران فأطلق قدماه وأطلق لنفسه العنان ، كأنه يستجم أو يستنشق بعضاً من الهواء الطلق ، وكلما داهمه التعب والإرهاق ،أعطي مؤخرته للأرض والتراب ، فهو الآن ليست بقاضي ،ولا يمكن التعرف عليه ،لقد تنكر وغير ملامحه وثيابه وخرج دون أن يعلم أحداً بكنيته،لقد دفعه الأرق والهم للتنكر بعدما ضاق عنده النطاق وتوقف اللب وغياب الحيل منه ،أنها أول قضية تطول أمامه وهو ينظرها ، ولا يجد لها حلاً إلا أن يمدد فترة الحبس للمتهم علي أمل أن يجد برهان قوياً ،فيصدر حكمه إما ببراءة أو قصاص
- *****
- الإدعاء : هذا اللص تظاهر بأنه يود شراء مقداراً من اللحم ، وفي غفلة من القصاب ،استحوذ علي نقوده ووضعها في جيبه . لمحه القصاب وهو يخبئ ما لحقته يده من سرقة وهو يضعه في جيبه ، أراد أن يسترجع نقوده أنكر اللص السرقة ، وافتعل مشاجرة ونزاع يود من خلالهما أن يفلت وينجو،
- المتهم : يقسم بأغلظ الأيمان أنه لم يسرق درهماً واحدا من القصاب ، كل النقود التي وجدت في جيبه هي ملكه ، جاء ليشتري ما يحتاجه بيته من أشياء ولوازم
- الشهود : إجماع الشهود أنهم لم تر أعينهم ما يقوله القصاب وما يدعيه ،أو لم يتيقنوا أن هذا الرجل قد سرق القصاب ،كل ما رأته عيونهم ، هو إمساك القصاب في تلابيب الرجل وإدعاءه له بالسرقة ، فما من دليل قاطع وبرهان . الأمر محير وقد يظلم القاضي الرجل فكيف يصدر حكماً ؟ ، يخشي أن يظلم أحدهما ويود أن تكون الحجة جلية ،
- *****
- لم يكن الأمر بالسهل الميسر علي القاضي ،لقد انتشر الخبر بين الناس يتناقلون قصته وأصبح علي ألسنة السُمار في الحوانيت والمقاهي ، فقد أرقه الوضع واستطال أمده، فكيف لا يجد الناس العدل في بيت العدل ؟ ، هاجس تلك القضية نغص عليه خشوعه في الصلاة وسيطر علي تركيزه ،فبات ينسي ويسهو في صلاته ، لا يعرف كم أدي من الركعات في صلاته ؟،فالمتهم ما زال طي الحبس فلا رجاء أو بارقة أمل أو حتى شهود عدول ، متى تنتهي تلك القضية ؟،أدي صلاة الفجر وأبي أن يستريح ، قال قرينه يرشده ،أخرج من تلك القوقعة عسي أن يأتيك الفرج ، خرج متنكراً يطوف بأرجاء مدينته وبشوارعها وهو بين أمرين لا ثالث لهما ، قد يرزق بحلٍ يكون من فيض الله وإلهام منه ، وإن لا يقع تحت ـأثير أحد من معاونيه فيظلم أحدهما دون أن يدري ، انه يبتغي العدل وليس سواه .
- ******
- بعد عناء وجهد ساقته قدماه وهو يتقلب من حارة إلي حارة ومن شارع إلي شارع
- يقبع مقهى عامر بالخارجين عند أطراف المدينة ،توقفت قدميه حينما رأي نهاية العمران بالمدينة ، أحب أن يجلس حتى لو كان ذلك بين الأفاعي ، ألثم وجهه ورفع من رأسه عمامته وأظهر التنكر لحاله ، تناول القاضي كرسي أعرج وانزوي جانباً يدندن وهو يقلب أحداقه بخفة في وجوه الجالسين ، تملكه الغيظ والحزن وهو يري الخارجين ينعمون بالحرية ويمارسون المنكر في الشراب واللفظ الشنيع ، أهل الكئوس والشراب ، همّ أن يعلن عن نفسه وذاته ، لكن أوقفه ما جاء به وأخرجه من صومعته ، كيف يجدر به أن يكشف عن ذاته وهو في الحين عاجز عن الفصل في قضية قد تتكرر وتحدث علي مر الأزمان ، ليس هذا هو الوقت المفضل لذلك ،ليكن الصمت أبلغ من الكلام ، وإلي حين أخر وظرف ملائم له ، طوي جناحيه ،وشبك أصابع يديه يحتسي من فكره وأرقه ،
- *****
- علي مرمي غير بعيد جلس ثلاثة من الخارجين ،تمتلئ المائدة وسطهم بكئوس البيرة ولفائف التبغ المحشوة يتبادلون الحديث والنكات ، لم يعولوه بالاً ولم يفطنوا له ، كانت أصواتهم مزعجة وحديثهم مزريا ، تنفر منه وجدانه ويضيق صدره به ،
- أمتلك معية الصبر وامتلكته فصام في صمته وكأنه أنكر كل الجالسين ،وأنكر جلوسه في حانة العربدة وساحة المساطيل ،
- قال أحدهم : وهو ينفث زفيره المشتعل من كور صدره والتي تفوح من رائحة الحشيش رافعاً رأسه في السماء مثل مدخنة مصنع للطوب ،يطلق غازاته في جوف السماء لتتطاير معبقة الجو بما تحمله من رائحة ينعم بها المحششون ،
- قال : ما رأيكم في قاضي مدينتنا ؟
- أتظنون أنه قادر علي إثبات الحقيقة ؟ فما أظن أنه جدير بذلك ، الأمر بسيط جداً
- فلو كان لديه عقل لانتهت تلك القضية من يومها ولم تظل معلقة حتى يومنا هذا ، قال الأخر : ماذا يفعل هو أسمع انه رجل حازم لا يهاب أحداً وعالم فقيه ورع ،
- أفاق ثالثهم وقال : وهو يخرج نفسه جدار الكرسي الذي يجلس عليه وينتصب ،
- أن قضية مثل تلك القضية لا تحتاج إلي فقه ن وإنما تحتاج إلي فكر ودهاء ،والرجل يخلو من الدهاء ، ما عليه إلا أمراً بسيطاً عليه فعله ولن يحتاج إلي شهود بعده أبداً ،فهذا الأمر هو أقوي الشهود ، ولن يستطيع السارق أن ينكر ولن يستطيع القصاب الإدعاء ، قال الأول :هات ما عندك يا فليسوف زمانك ، قال : لو كنت مكان هذا القاضي ما شغلت بهذه القضية لهذا الحد ،ولجعلت الفصل فيها فورياً ،
- ما علي القاضي إلا أن يأتي ببعض الماء المغلي جيداً ،ثم يطرح تلك النقود محل الفصل في الماء المغلي ، فإذا ظهر علي سطح الماء الدسم والدهن ، كانت هذه النقود ملكاً للقصاب ، أما إذا خلت من ذلك فهي نقود السارق وهو بريء من هذه السرقة ، قال صديقه الذي هب منتصباً : لو باستطاعتي أن أجعلك قاضياً لرسمتك قاضياً ، لكن أخشي أن تحكم علينا بمجرد تنصيبك وتقدمنا للسجن فليس لك أمان
- ******
- سمع القاضي حديثهم وهو يظهر عدم الانتباه ، ودقت طبول قلبه وتسارعت أنفاسه ،وهب واقفاً علي عجلة أمره ، لقد وجد الحل وجاءت الفرجة من السماء ،
- عرف القاضي أن هناك أموراً تحتاج إلي فطنة ودهاء وتفكير ، يحتاج من يتول أمر القضاء أن يعايش الناس وإن يعايش وه ، لا يكون منفصلاً عنهم . يقول وهو يسرع الخطي (من تعلم لغة قوم أمن مكرهم ) لا أصلح بعد اليوم قاضياً ، إلا إذا مررت بأحوال الناس
- بقلم الكاتب // سيد يوسف مرسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق