جلس مسترخياً على صخور البحر المترامية على الشاطئ منبهراً بعنفوان
البحر وضجيج الموج، عيناه تحومان فى قلق وغربة تجاه الأفق البعيد، وفى ذهول
من اتساع البحر وعمقه، شرد بأفكاره بعيداً نحو المجهول، وتسلل ببطء الماضى
الى بؤرة الذاكرة، رغم الصمت الذى يلف المكان، إلا أن صوت البحر كان يعلو
فى أذنيه كأنه ينتحب، مذكراً إياه بنحيبه فى الماضى الذى ظل يؤرق حياته
ويحبس الدمع فى عينه، شد انتباهه تلاحق الأمواج وتلاطمها بقسوة وعنفوان
وتعجب، كيف تبتلع بعضها البعض فى سرعة دون هوادة،
ورائحة اليود التى تنتشر من حوله فى المكان تتخلل صدره فتنتعش رئتاه،
وتنشط ذاكرته، يتذكر أيام الطفولة التى قضى معظم أوقاتها على نفس الشاطئ،
أمام نفس البحر وعلى ذات الصخور المترامية، وكأن الزمن توقف ولم يمر ولم
تدور عجلة الحياة، ثم تدرج بالتذكر لمرحلة الصبا والشباب، وحبه الأول الذى
مازال ساكناً فى القلب ولم يبرحه ولو لحظة، بل أن هذا الحب أغلق القلب
بمفتاح الموت والحياة، ومهما طال العمر سيظل القلب مغلقاً، تذكر حبيبته،
كيف ضاعت أمام عينيه فى لمح البصر وهو عاجز عن انقاذها، وكيف أن البحر
احتضنها بعنف، وأن أمواجه أبت أن تترك هذا الحضن، بل اطبعت عليها بقوة
وغاصت بها إلى الاعماق، تساقطت دمعة حارقة انتشلته من الماضى وعادت به إلى
الحاضر، تنهيدة يخرج معها بعضاً من آلام حبيسة بين ضلوعه، ثم ترنو عيناه
الى السماء، مستحلفاً إياها أن ترحم محبوبته، وأن ترحمه من شعوره بالذنب
نتيجة انتصار الموج عليه واحتضان محبوبته للأبد، ويتوه فى فضاء سرمدى، تضيع
منه الساعات وهو جالس على الصخور يتأمل لحظات الغروب، يرى الشمس وهى تغوص
ببطء فى ماء البحر وتغرق فى القاع، وكأنها على موعد مع محبوبته كى تحتضنها
وتخبرها بشوقه وحرقة فراقها، وتأنس هى الأخرى بجوارها، يومئ برأسه وفجأة
تمر أمامه حبيبته المفقودة، نفس الوجه والملامح، الشعر بسواده الليلى،
القوام الممشوق، نفس الدلال والخيلاء، هب واقفاً مذهولاً، وركض خلفها
منادياً بإسمها، إلتفتت إليه باسمة وعيناها تلمع فرحة، مد يده مصافحاً،
صافحته، عانقها، عانقته، أغمض عينيه، حتى لا تغيب عن ناظره، وذاب فى
مشاعره، همست فى أذنه، كان يجب أن أرحل بعيداً، كى أحتفظ بحبك للأبد.
وفـــــــاء ماضــــى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق